تخطى إلى المحتوى

(في المحراب)

(في المحراب)
لا أكاد أدخل المسجد إلا و أجده في محرابه(1) عاكفاً في مصلاه تجده ما بين راكع وساجد يطيل في النافلة فلا يكاد يرفع جبينه عن الأرض حتى تظن أنه أصيب بأمر ما!, يصلي في تخشع وانكسار وسكون لا ترى منه حركة أبدا, لقد خشع قلبه بين يدي ربه فسكنت جوارحه فصار كأنما على رأسه الطير, فإذا أدى السنة وتحلل بالسلام تراه أقبل على ربه رافع أكفه – مستغلا ساعة الإجابة بين الآذان والإقامة- قد حنا رأسه متذللاً متضرعا يدعوه خوفاً وطمعا ورغباً ورهبا, يثني عليه حامداً له شاكراً لأنعمه يسأله من خيري الدنيا والآخرة يرجو رحمته ويخشى عقابه, يطلبه العون والمدد والقوة والإيمان والثبات حتى الممات على ملة الإسلام وسنة المصطفى عليه السلام, فإذا أقيمت الصلاة ختم دعائه – الذي جمع فيه قلبه و روحه بين يدي ربه – ختمه بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله, ثم انصرف إلى الفريضة ولا شيء يشغله عن الله, كيف لا وقرة عينه في الصلاة , قد سمت روحه إلى الملأ الأعلى فلا شيء من حطام الدنيا يشغل باله وتفكيره حتى يتردد على مسامعه ختم الصلاة بالتسليم, فإذا به يرفع صوته بالاستغفار: استغفر الله, أستغفر الله, أستغفر الله. معترفاً بتقصيره مقراً بنقصه وانه لن يجازي الله على نعمه ولو أفنى عمره ساجداً لله.

وبينما الناس يتهافتون على دنياهم قد جدوا بالمسير خارجين من المسجد, تراه قد أسند ظهره وأرخى جسده وراح يسبح الله ويحمده ويكبره في غاية الطمأنينة والارتياح مستشعراً قول الرسول صلى الله عليه وسلم:‏ (‏من سبح الله في ‏ ‏دبر‏ ‏كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين فتلكتسعة وتسعون وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمدوهو على كل شيء قديرغفرت خطاياهوإن كانت مثل ‏ ‏زبد‏ ‏البحر )صحيح مسلم.

ثم زين ذلك التسبيح بتلاوة أعظم آية في كتاب الله (آية الكرسي) فكان لم يمنعه أن يدخل الجنة إلا أن يموت,ثم قرأ (قل هو الله أحد) و(الفلق) و(الناس) كعقد فريد منتظم فكانت عاصمة له من الشيطان بإذن الله.

فإذا انتهى من أذكار الصلاة وصلى من السنن ما شاء الله – إن لم يكن وقت نهي – تناول المصحف الشريف بيمينه وذهب في رحلة مع القرآن يتدبر ويتأمل كلام الرحمن تالياً ما تيسر له (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) القمر 17.
هذا هو حاله في المحراب كالسمكة في الماء أو كالطير في الهواء لا يكل ولا يمل ترى النور يتلألأ في محياه والطمأنينة تكسوه والسكينة تتنزل عليه.

ومع ذلك فهو في بحبوحة من العيش يخالط الناس في أفراحهم وأتراحهم يؤانس أهله ويمارس عمله ويروح عن نفسه, غير أن قلبه معلق بالمحراب فهو يحن ويشتاق إليه كما تحن الطيور وتشتاق لأوكارها .

هذا المحراب الذي غفل عنه الكثيرون ولم يستشعروا أهميته وعظمة أمره ولو علموا ما فيه لأتوه ولو حبواً, يجهل الكثيرون أو يغفلون عن أن المكث في المحراب من الأعمال الصالحة والعبادات الفاضلة فهو في صلاة ما دام أنه ينتظر الصلاة, في المحراب تحفه الملائكة وتنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة ويذكره الله عند ملائكته, في المحراب يخلوا المؤمن بربه فيدعوه ويناجيه ويشكوا إليه بثه وحزنه, في المحراب يستجم المؤمن ويفكر ويتأمل بهدوء ويراجع حساباته وخطواته ومسيرته في الحياة.
.
في المحراب تتجل العبودية لله ويصدع بالتوحيد ويعظم الرب تبارك وتعالى وتتدبر آياته ويخضع العبد لمعبوده ويشتاق المحب لمحبوبه سبحانه وبحمده, ويقر المذنب بالذنب و يعترف المقصر بالتقصير.

*همسة:
– يا من ضاق به العيش وأثقل كاهله الدين عليك بالمحراب(كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حساب) آل عمران 37.
– يا من حرم الولد وطال انتظاره ودب اليأس في قلبه عليك بالمحراب(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران 39.

(1)المحراب: هو مكان الذي يصلى فيه ولا يقصد به موضع الإمام فقط, ولا يلزم أن يكون في المسجد.

كتبه/ خليل إبراهيم البرجس


الوسوم:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.